فصل: أنواع الأطناب عند السيوطى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.فوائد إيجاز الحذف:

وذكر العلماء فوائد إيجاز الحذف، ومن أهم هذه الفوائد:
أولا: التفخيم والإعظام لما فيه من الإيهام، ويقع ذكره فيما يتعلق بوصف الأشياء التي لا تتناهى ولا تفي الكلمات بوصفها وتضيق الألفاظ عن التعبير عنها، كقوله تعالى في وصف النار: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}، لا شك أن أي وصف لا يمكن أن يعبر عما يمكن أن يروه.
ثانيا: شهرة ما يمكن أن يقال، ويختصر لكيلا يكون ذكره من باب التكرار الذي لا مبرر له، وأحيانا يتم الإيجاز للتخفيف، كما في حذف حرف النداء في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}، وأحيانا يفيد الحذف معنى التحقير عند ما يراد تجاهل الأمر أو لرعاية الفاصلة في القرآن: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.
ولا يتصور الحذف فيما يجب ذكره لإتمام الكلام، فالحذف في القرآن لا يمكن أن يؤدي إلى وجود خلل، فلا يحذف ما يجب ذكره كالفاعل ولا يحذف ما هو مختصر، ولا يتم الحذف في موطن التأكيد، ويجب تقدير المحذوف بما يناسبه من الألفاظ والمعاني ويكمله وهنا يقع الاجتهاد في تفسير معاني المحذوف، ويمكن أن يكون الحذف في بعض الأحيان لتوسيع دائرة الاجتهاد لمعرفة المحذوف أو لتعدد الاحتمالات الممكنة لإتمام المعاني وإكمالها، والحذف في جميع الأحوال مما تقتضيه اللغة وتدعو إليه، وهو أمر محبب إذا لم يؤد إلى نقص في المعنى، ويتحدد الحكم عليه بحسب أثره في النظم من حيث سلامة التعبير ووضوح المعنى.
وكما يبرز الإعجاز في الإيجاز كأسلوب دال على عظمة النص القرآني يبرز أحيانا في الإطناب المتمثل في زيادة بعض الكلمات أو الحروف للتأكيد والتوضيح، والتأكيد لا يقع إلا بالنسبة لما يحتاج إلى التأكيد، وهو موافق لما كان عليه كلام العرب من استعمال التأكيد وكانوا يعتبرون ذلك من الفصاحة ما دام دالا على معنى.
وفي مجال الرد على المنكرين لابد من اللجوء إلى أدوات التأكيد وكلما اشتد الإنكار زادت الحاجة إلى قوة التأكيد كما في قوله تعالى: {قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. [يس: 16]، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}. [الحج: 1]، وقوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. [يوسف: 53].
واستعمل القرآن في هذه الآيات (أدوات التأكيد)، لتأكيد الرسالة في الآية الأولى بعد إنكار الكافرين لنبوة الرسل، وتأكيد الحساب بعد دعوتهم إلى التقوى، وتأكيد طبائع النفس الأمارة بالسوء بعد نفي ادعاء البراءة، وتستعمل أدوات التأكيد المعروفة إذا كان المخاطب منكرا ومترددا في قبول الخطاب، وأحيانا يترك التأكيد إذا قامت قرائن وأدلة واضحة على الحكم، وهذه القرائن كافية لترجيح كفة الإثبات، ومن العبث استعمال أدوات التأكيد كالقسم وحروف التأكيد الأخرى لإثبات ما هو ثابت أو لما قامت الحجة عليه.
وأحيانا يستعمل (التأكيد الصناعي) وهو التأكيد بتكرار اللفظ الأول أو بمرادفه، كما في سورة فاطر: {وَغَرابِيبُ سُودٌ}، وفي سورة المؤمنون: {هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ}، أو التأكيد باستعمال الكلمات الدالة على التأكيد مثل: كل وأجمع وكلا وكلتا، كما في قوله تعالى في سورة الحجر: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}. أو تأكيد الفعل بمصدره، كقوله تعالى في سورة النساء: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً}، أو التأكيد بالحال كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وقوله في سورة مريم: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}، وقوله في سورة البقرة: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}.
وأحيانا يستعمل القرآن (التكرار)، لتحقيق معان وغايات أهمها تقرير الكلام وتثبيته وتأكيده، وهذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن في حالة تكرار الكلام، وقد جاءت الأحكام والأخبار مكررة في القرآن، لتأكيدها وبيان أهميتها والتذكير بها، وأحيانا يراد بالتكرار التعظيم والتهويل كما في قوله تعالى:
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} وقوله: {الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ}.
ولا يمكن حصر أشكال التكرار ولا أهدافه وغاياته، فذلك أمر يتعلق بطبيعة الخطاب القرآني وأسلوبه، من حيث سلامة النظم واستقامته ومن حيث التركيز على بعض ما يجب التنبيه إليه من عبر ومواعظ في مجال القصص القرآني، وتأكيد المبادئ الأساسية للعقيدة الإسلامية، والاستشهاد بكل ما يؤدي إلى إقناع المخاطب.

.أنواع الأطناب عند السيوطى:

وذكر (السيوطي) أنواعا للإطناب كثيرة أهمها:
أولا: الإيضاح بعد الإبهام: قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب، وفائدته رؤية المعنى من صورتين مختلفتين، الإبهام والإيضاح، أو لتمكّن المعنى في النفس تمكنا زائدا، كقوله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}، فكلمة (اشرح) هي طلب لشرح شيء ما، (وصدري) هي التفسير والإيضاح لمعنى الشرح، وكذلك قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}.
ثانيا: التفسير: ومهمة التفسير إزالة اللبس والخفاء من الكلام، كقوله تعالى:
{إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19- 21].. وكلمة: {إذا مسه الشر} هو تفسير لكلمة: {هلوعا}، وقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، فكلمة: {لا تأخذه سنة} هي تفسير لكلمة: {القيوم}، فالقيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
ثالثا: عطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام، كقوله تعالى في سورة البقرة: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فالصلاة الوسطى معطوفة على العام، وداخلة ضمن لفظة الصلوات، وكقوله أيضا في سورة الأنعام: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} والنسك أعم من الصلاة، وهذا من عطف العام على الخاص.
وهناك صور أخرى اعتبرها السيوطي من أنواع الإطناب، كالإيغال والتذييل والطرد والعكس والتكميل والتتميم والاستقصاء والاعتراض والتعليل، ولكل صورة معنى خاص بها، وكلها تدخل ضمن أنواع الإطناب، ويبدو أن كلمة الإطناب ليست دقيقة في هذا المجال، فالإطناب كما يدل عليه لفظه هو الزيادة في الكلام أو بسطه، وهو خلاف الإيجاز، ولا يعتبر التفسير والتوضيح من الإطناب بهذا المفهوم، ولو حذفت الكلمات التفسيرية والتوضيحية لوقع الخلل في المعنى.

.الفصل السادس عشر: القصة في القرآن:

القرآن كتاب هداية، وهذا هو الأصل فيه، وكل ما ورد فيه من توجيه وما اشتمل عليه من منهج وما تميز به من أسلوب إنما يهدف إلى تحقيق تلك الغاية، ولذا فلا يمكننا أن نطبق المعايير البشرية المتعارفة على كتاب الله، ولو طبقت تلك المعايير عليه لانتفت الخصوصية القرآنية، وهي خصوصية في الأسلوب، وفي القصة، وفي النظم، وفي التصوير، وفي المنهج.
والقصة في القرآن ليست قصة بالمفهوم الأدبي المتعارف عليه عند كتاب الرواية، ولا يمكن أن تكون كذلك، فالقرآن ليس رواية، وليست غايته سرد حادثة، وإنما غايته تحقيق هدف ينسجم مع رسالة القرآن..
وما يقصه القرآن من أخبار الأنبياء السابقين والأمم السابقة إنما يراد به أولا العبرة والعظة، ويراد به ثانيا تأكيد منهج الدعوة واستمرارية هذا المنهج، ويراد به ثالثا تصحيح الأحداث التاريخية ووضع تلك الأحداث في إطارها الصحيح، للتأكيد على أن أنبياء الله واجهوا تحديات وصعوبات وصبروا، ولم يضعفوا أو يستسلموا، وتابعوا طريقهم من غير تردد، مدافعين عن الحق رافعين لواء الإيمان بالله، مطالبين بتصحيح مسيرة الإنسان، مبرزين عظمة الفضيلة في السلوك الإنساني.
والقصة في القرآن خبر عن أمم سابقة، وهو خبر عن غيب ولا يمكن أن يعلمه إلا من أوتي سعة من علم، وجاء الوحي بها، لتأكيدها وإقرارها وتصحيحها، وما كان أهل الجاهلية يعلمون إلا القليل من أخبار الرسل والأمم، ولابد أن ما علموه دخله التحريف والتزوير والتشويه حتى أصبحت الحقيقة ضائعة، وجاء القرآن لكي يؤكد الواقعة، ويصحح الحدث، ويشير إلى العبرة، ويقود الإنسان إلى أن يكتشف بنفسه ما أراده القرآن من حتمية انتصار الإيمان على الكفر، وانتصار الخير على الشر.
والمحور العام الذي تدور حوله القصة القرآنية يتمثل في المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية، من إيمان بالله ورفض لكل مظاهر الكفر والشرك، ومحاربة الظلم في المجتمع، وتشجيع الفضيلة، ومنطق الأنبياء واحد، ومنهجهم متماثل، ومنطق أهل الكفر والظلم أيضا واحد، في جاهلية مستمرة يصحح مسارها رسل الله في كل حين.
قال تعالى:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام].
وقال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}[الحج: 42- 44].
وهذه الآيات واضحات بينات على أن القصص القرآني كان يراد به تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته لكيلا يضيق بكفر أهل الجاهلية وبتكذيبهم لدعوته، وألا ييأس من النصر، فهذا هو طريق الأنبياء والرسل، وهو طريق جهاد وصبر وهو محفوف بالأشواك والآلام والأحزان، ولكن النصر في النهاية لهم، لأن الله ناصرهم ومؤيدهم.
قال تعالى:
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
ولا شك أن القصة يراد بها أولا النبي صلى الله عليه وسلم، ويراد بها ثانيا أصحابه ومن جاء بعدهم من المسلمين، لكي يعلموا جيدا منهج الإسلام.
قال تعالى:
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم].
والقصة في القرآن تساق لغاية معينة، ولهذا يذكر من عناصر القصة ما يخدم تلك الغاية، ويحقق الغرض من إيراد القصة فالزمن لا يذكر غالبا إلا عند ما يمثل الزمن عنصرا من عناصر التعبير والتصوير، كقوله تعالى في حالة إخوة يوسف:
{وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ} [يوسف: 16- 17].
وتصور القصة في القرآن الحدث وكأنه واقع فعلا، وتهيئ الأسباب النفسية لكي ينفعل القارئ بالحدث، ويعيش معه، ويراه أمامه كمشهد حي ناطق، وليس مجرد صورة جامدة ميتة، فليست الغاية القصة ولا المشهد وإنما الغاية إيراد قصة أو مشهد منها للتعبير عن معنى معين ينسجم مع أغراض القرآن في إبراز الصراع الدائم بين الحق والباطل، وتصوير حالة المشركين والطغاة وهم يدافعون عن مواقعهم أمام دعوة الأنبياء التي تهدف إلى تحرير المفاهيم الإنسانية وتصحيح العادات والقيم الاجتماعية، وخلق الإنسان يليق بخلافة الله في الأرض، فلا يطغى ولا يظلم ولا يذل ولا يسقط في هاوية الضلال..
ولو تأملنا في قصة الرجلين اللذين يملك أحدهما جنتين من أعناب، وتابعنا ذلك الحوار الرفيع المعبر عن عظمة القرآن في تقريب المعاني من الأذهان، وفي تصوير القيم الخالدة تصويرا رائعا، ما أعظم ذلك الحوار بين غافل عن الحق ظالم لنفسه دفعته غفلته إلى أن يعتز بماله ورجاله، ودخل جنته وهو يفخر بما يملك، وينظر نظرة صغار واحتقار لصاحبه المؤمن، ويقف المؤمن وقفة إيمان ونصح، ويقول له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ثم يقول بلهجة الواثق من ربه فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}.
وفجأة... يأتي أمر الله.. {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}.
وتأتي العبرة.. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً} ويأتي الهدي القرآني مقررا الحقيقة التي يجب أن يعيها البشر: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 32- 44].
إنه أروع تصوير، وأجمل تمثيل وأصدق تعبير عن الحياة في مظاهرها، وعن الإنسان في قصور نظره وعجزه وضعفه، وقليل ما هم أولئك الذين يدركون الحق فلا يخدعون أنفسهم، ولا تخدعهم الدنيا، موقفان لرجل..
الموقف الأول:
يمشي بخيلاء، في جنتيه أعناب ونخل وزرع، ونهر يتدفق ماء وينظر باستعلاء لصاحبه:
- {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا}.
ويشير إلى جنته بيده قائلا: {ما أظن أن تبيد هذه أبدا}.
أما الموقف الثاني:
جنة خاوية على عروشها، لا أعناب ولا نخل ولا زرع، ولا نهر ولا ثمر، ويقف صاحب الجنة حائرا دهشا يقلب كفيه لا يصدق ما يرى.
ويبحث عن ناصر ينصره، فلا يجد رجاله ولا ماله.
- يعود إلى حقيقته التي نسيها في لحظة غفلة.
- يا ليتني لم أشرك بربي أحدا.
وتسدل الستارة عن هذا المشهد الرائع المعبر.. وتظل الصورة في الأذهان ناطقة حية معبرة. وفي كل يوم يتجدد الحدث ويتجدد الحوار. وينسى الإنسان في لحظة الغفلة حكمة الحياة وعظمة الدرس.
ويتجدد المشهد على مسرح الحياة.
فرعون يقف شامخا بين قومه ينادي بأعلى صوته:
- {يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (1)}.
ويشير بسخرية واستهزاء إلى موسى.
- {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ}.
وانحطت الهامات طاعة وذلا، وفجأة حل بهم عقاب الله وغرقوا جميعا: {فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وتأتي العبرة: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}.
ويتجدد المشهد.
قرية بطرت معيشتها.. كذبت الرسل.. وظلمت.. وليس هناك أقسى من الظلم.. ولابد من الهلاك.. هذا وعد الله.. وهذه هي العبرة.. {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (1)}.